احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

على كرسيّ الإعتراف

على كرسيّ الإعتراف
لم يخطر ببالي يومٌ أن أفضيَ لأشخاصٍ أحبّهم ما أكنّه لهم من محبّة، أو من عتابٍ عبر كلمات مكتوبة لا محكيّة، لربما اليدُ أجرأُ بكثير من اللسان لذلك... إخترت أناملي بدلاً من شفاهي لأدليَ باعترافاتي .
لم يتسنَّ لي يومٌ أن اقولَ لكِ ما كتبته، ليس لضيقِ الوقت أو لانعدامِ المناسبة، ولكن ربما غيرةً منكِ لأنّكِ صورةٌ لطالما أردتُ التشبّهَ بتفاصيلها حتى الدقيقة منها .
أعرف تفاصيلَ كثيرة في عينيكِ، وإن لم تأتِ على ذكرِها يوماً، أشبه بأسرار بينكِ وبين نفسكِ، وإن تقاسمتِ بعضاً منها معي عنوة .
رحلةٌ طويلة من الكفاح والعذاب والطموح، جسدٌ يضيق بالآمال والأحلام، أيد ٍ لا تتقن في هذه الدنيا إلا العطاء : من مهنة منحت العلمَ لأبناءِ منطقة بأكملها، لم تكتفِ بما بين أغلفةِ الكتب بل، مزجت القواعدَ العربيّة بقواعدِ التربية، فهذه الأخيرةُ لا يعرفُها إلا القلائل: أصولٌ وقواعدُ لحدٍّ أكاد أجزم بأنّي شربتها بالرضاعة. 
يقتحمني شريطٌ مصوّر، تنساب تفاصيله الدقيقة : إمرأة بشعرها الأشقر وعينين خضراوين ترمقان بكلمات، لا تحتاجان إلى اللسان لتنطقا بها ... عينان تنهران، تعظان، تحضنان. بريقهما كلماتٌ لا أحرفَ لها، رسائلُ غيرُ مدوّنة .
إمرأة بأناقتها الكاملة من رأسها إلى أخمص قدميها، تتناول من على الكرسيِّ الصغير كتبَها، دفاترَها وحقيبتها المتمّمة لتلك الأناقة لتكملَ في مدرستنا المجاورة رسالةَ الأمومة.
خزانتها ملأى بأثوابٍ من زمن تجدّدت وتغيّرت تفاصيلها مرّات عدّة لتتناسبَ والموضة، فالأسواق المتجدّدة لا تحتوي على تلك الأقمشة النفيسة التي في خزانة أمّي، وواجهاتُ المحال فساتينها لا تكترث لتفاصيل الأناقة التي تسعى أمّي إليها... من أزرار، إلى أحزمة وورودٍ يابسة تزيّن بدلاتها الرسميّة، ناهيك عن المحارم المطرّزة يدويّاً الملوّنة منها والبيضاء، وإذا حصلت معجزة، وأرادت التخلصَ من أحدِ الأثواب، تعمد إلى مقصّ تقتطع أزرارَه وتحتفظ بها لتزيّنَ ثوباً جديداً تخيطه كلّ سنوات مرّة. 
هذه الأنيقة جداً في ساعات قليلة تنقلب إلى سيّدة منزل من الطراز القديم، القديم جداً، فهي سيّدة تخترق ببساطة الحدودَ بين الرجل والمرأة، تغيّر ديكور بيتنا العتيق المضني، فلا تعوقها خزانةٌ ضخمة أو كنبةٌ ثقيلة، حتى يداها الناعمتان تكنسان دار وطريق منزلنا من أوراق الجوز المتناثر ليغتسلَ جسدُها المنهك بعرق السنين. 
أمّا وجهها الأبيض فيغدو أحمرَ بعد نهارات كاملة في الحقل، تعاون والدي فيه على الدهر وجمع الحطب. 
وفي المطبخ سيّدة منزل اقتصاديّة.... كميّة قليلة من اللحم تكفي لوصفتين أو أكثر، أمّا مهملاتنا دوماً خالية من فضلات الطعام، لأنّ في اعتقاد والدتي رمي الطعام إثمٌ لا يغفرهُ ربُّ السماواتِ والأرض. 
وعندما تحلُّ ساعاتُ المساء المتأخرة، يرتمي جسدُها المنهك على كنبةٍ تتأوّه لوجعها، تئنُّ لأنينها، وزفراتٌ ترسم ضنكَ الساعات .
ثلاثون عاماً في مهنة التدريس لم أجلسْ على مقعدٍ في أحد صفوفها، لم أحظَ بأن أكون أحد تلاميذها، أهرع إليها في البيت عندما يتعذر عليّ حلّ تمارين في إحدى الموادّ، ولكن على مقاعد الدراسة الجامعيّة كانت زميلتي .... طموحها تخطى كلّ عائق، قرّرت استكمالَ دراستها بعد انقطاع دامَ سنواتِ زواج وأمومة لطفلين ... إصطحبتني مرّاتٍ عدّة إلى صفوفها، رأيتها تلميذةً تصغي بدلاً من أن تشرح، تكتب بدلاً من أن تصحّح. لم أدركْ وقتذاك الحكمة من هذه الصورة التي طُبعت في مخيلتي عن سابق إصرارٍ وترصّد، ولم أستخلصْ حينها العبرة، إلا بعد مضيّ وقتٍ ليس بقليل.... إنتهى عامها الاول وانتقلتُ من صفة المرافِقة إلى الزميلة رغم أنّ الأولى هي الأصحُّ تعبيراً... فالسيّدة الشقراء أصبحت مدارَ حديث وإشاراتِ التلامذه " هذه السيّدة هناك لديها ابنة في السنة الأولى تدرس أيضاً اللغة العربيّة " حتى أنا تشير إليّ الأصابع وأسمع همسَهم "هذه الابنة وأمها تدرسان معا ً"، إلى أن جمعتنا قاعةٌ واحدة ومادّةٌ مشتركة، أعرف سؤالاً من امتحانها ووالدتي تعرف آخر. جلسنا بالقرب من بعضنا البعض نحاول تبادل المعلومات إلى أن جاء أستاذٌ فارعُ الطول، وكأنّه بفظاظته ظنّ أنه سينالُ من هيبة أمي في عيني، إلا أنّها انقضّت عليه كلبوة. إنتصبت من مقعدها، حزمت أوراقها واقتربت منه خطوات، إرتعدت منها فرائصي ورمقته بنظرة تكلمت قبل الكلام " إذا كان العلم سيحرمني أمومتي لا أريده، هذه ليست زميلتي هذه ابنتي " ومشت. وسط ذهول مَن في القاعة وعلى رأسهم الأستاذ الموقّر جمعتُ أوراقي المبللة بدموعي لشدّة التأثر وقدّمتها غير مكتملة الإجابة، وكيف أكمل ما لم تنجزْه أمّي ؟؟!! فسألني: أنتِ ابنتها ؟؟ أكملي امتحانكِ؟؟ فرمقته بنظرة فيها لؤم الكون بأكمله ... " إذا كان العلم سيعلمّني الأنانيّة، أوّل اختبارها مثل هذا الموقف لا أريده ".. ومضيتُ لأرتمي بحضن أمي لا مبالية بكلّ مَن حولي. مر ّعامٌ آخر جمعت والدتي كلَّ المهن التي تتقنها، لم تغفل أيّاً منها على حساب الأخرى.. إلى أن جاء موعد الاختبارات، تعمّدتُ الجلوس على مقربة منها، إخترت مقعداً أمام مقعدها... ما إن استلمتُ أوراق الإمتحان حتى التفتُّ ورائي لأتأكدَ من معرفتها للإجابة... وصل الوقت المحدّد إلى نصفه. ومن دون أن أدري رأيت الوريقات أمامي تتبلل من دموعٍ يصعب خجلي من كفكفتها .. عاد بيَ الزمن إلى طفولة فشلت السنواتُ في تلويثها ... إقترب المراقب الكهل مني متسائلاً عن سبب دموعي ... وببراءة طفلة صغيرة كأنّها في أوّل أيام دراستها قلت: " بس بدي إسأل ماما سؤال "... إنقسمت الابتسامة على وجهه بين الدهشة والسخرية وقال: " ماما أي ماما ؟؟!! وينها ؟؟". إستدرتُ لأحظى بنظرة اطمئنان من عينيها لأجد سيلاً من الدموع، ويداً تتجاوز حرمة الامتحان وتضرب عرض الحائط السكون الذي يلفّ جدران القاعة الواسعة، تمتدّ لتنتشلني من مقعدي، وأرسوَ بين ضلوعها.
مشهد ٌ تتكرّر فصوله وإنْ تبدّلت الأمكنة والأزمنة، كلما ضاقت بيَ الأيّام والحياة ألجأ إلى قلبها، أقترض نبضاً جديداً يساعدني على متابعة العمر ... ألجأ إلى روحها آخذ زفرة تبثّ بداخلي الطمأنينة بأنها قربي . 
سيّدة غيّر من ملامحها العمر والمرض، لكنها ما زالت تلك السيّدة الجميلة الأنيقة خـَلقاً وخـُلقاً.... سيّدة لا بل هي سيّدتي وحبيبتي .
هذا عمرٌ من آخرَ لم يمضِ بعد، فصل ٌ من حياة تلازمْنا فيها المسار، بحزنها وفرحها، بضيقها ورغدها، قصّة حياة لن تكتملَ فصولها .... هذه أمّي وصورتها في قلبي وفي سطوري ... 
أمّي هذه هديّة بكلمات كانت أوّلها بفضلكِ وآخرها بفضلكِ ... بدأت بحرف الألف، بقلم يرتجف بين أصابعي الصغيرة، يخاف من وريقة. واليوم انتهت بكلماتٍ بدأت بحرف ... والقلم ما زال يرتجف، يخاف من الورق والحبر معاً.
هديّتي لكِ في عيدكِ .... رسالةُ اعترافٍ بأنّكِ سيّدتي الجميلة أبداً ....
كلُّ عام وأنتِ بخير .. لأكونَ أنا بخير ... 
******
رنا سليم خضر - اعلامية لبنانية




3955112




اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق